لماذا أعادنا الله تعالى إلى الكهف؟

فجأة و بلا مقدمات أوقف الله تعالى سرعة انطلاق الحياة، و أعاد البشرية كلها إلى الكهف لتُدرك لا لتترك، لتنهض لا لتمرض، لتستيقظ لا لتنام، لتُبعث لا لتموت

أوقفنا الله تعالى ليلفت انتباهنا جميعا، و ليسألنا جميعا: أين تذهبون

أوقفنا ليخبرنا أن تلك الهموم و المشاغل و الأعمال ليست حقيقية، و سوف تختفي جميعا لحظة اختفاء قيمتها في نفسك، فأنت من ضخمها و نفخ فيها و عظمها

أوقفنا الله تعالى ليذكرنا بأنه الفعال لما يريد، و أن تلك القوة المادية التي خطفت أبصارنا، و التكنولوجيا المتطورة التي سلبت عقولنا، ليست إلا لعباً و لهواً، و أنه تعالى بمخلوق لا يُرى بالعين المجردة أوقف الكل عاجزاً أمام قدرته

أوقفنا الله تعالى ليطهر قلوبنا من الاغترار بشبهات الملحدين، و تطاول الماديين، و تعالي المتغربين، و حمايتنا من التأثر بذيوع صيت التافهين

الغربة

أعادنا الله إلى الكهف ليذكرنا بأن لنا في البيوت شركاء تعمقت الغربة بيننا رغم قربنا، و جفت ينابيع المحبة بهموم المشاغل و المتاعب، و خفتت أحاسيس العطف و الود وسط ضجيج الحياة و سرعتها الهادرة

أعادنا الله إلى الكهف ليذكرنا بأن لنا أولاداً ربما كبروا و لم نتعرف عليهم بعد، و ربما نضجوا و لم يأخذوا منا حظهم بعد، بل ربما لم نكتشفهم على حقيقتهم و لم نحسن التعرف على ملامحهم و اهتماماتهم و أفكارهم و تطلعاتهم، فنحن بالنسبة لهم دائما مجرد ضيوف عائدون من عمل أو ذاهبون إلى عمل، أو نجلس معهم في البيت و نحن لم ننقطع عن استكمال الأعمال و الاتصالات و المهام

أعادنا الله تعالى إلى الكهف لنكتشف أن لنا أرحاماً مقطوعة لم توصل منذ زمن بعيد، و أصحاباً و أحباباً انقطعت بنا علاقتهم و غابت عنا مودتهم

أعادنا الله إلى الكهف ليسال أحدنا نفسه من أنا؟ هل أنا قطعت من العُمر كل هذه السنوات فعلا؟ هل حققت إنجازات فعلية على هذه الأرض ستنتفع بها البشرية بعد موتي؟ هل أنا مستعد الآن للقاء الله مطمئنا لهذا اللقاء مشتاقا إليه؟

أعادنا إلى البيت لنقعد فيه أصحاء قبل أن يقعدنا المرض أو الألم، لنستمتع بأهلنا و أولادنا و مازال لدينا بعض الصحة، و بعض الطاقة، و بعض الأمل

أعادنا الله إلى الكهف أفراداً و أُسراً و مجتمعات و مؤسسات و تيارات و دولاً، ليس من أجل أن ننام في الكهف مئات السنين، بل من أجل أن نقوم بواجبات الكهف لكي نستعد للبعث من جديد

لنراجع أنفسنا

حبسنا في الكهف لنراجع أنفسنا و تصوراتنا و مواقفنا و منهجياتنا و نجدد العهد و نتخلص من أسباب الإخفاق، و نصدق في التوبة، و نتأهب لقيامة فتية جديدة. و كما قال ابن عطاء

ما نفع القلب مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة

حبسنا في الكهف لنتلمس فيه رحمات الله تعالى: (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا)

و لنعيد الصلة برسالة السماء الأخيرة إلى الأرض: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ)

و لنقوم بترميم العلاقات و تناسي الخلافات و توثيق الصلات (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)

و لنعيد ذكر الله إلى القلوب الصادئة، و النفوس الخاوية، و العقول المضطربة، و العيون الزائغة و الآذان المشوشة: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَٰذَا رَشَدًا)

و لنتيقن أن رؤيتنا للمستقبل و استشرافنا لمعالمه لن تستقيم بمعزل عن مشيئة الله تعالى و حسن التوكل عليه: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا ● إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)

و لنتفكر فيما أنعم به علينا، فنشكر له فضله، و نعترف بعظيم منته، و نحن نتلوا معا: (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه)

أعادنا الله تعالى إلى الكهف لنتعلم مع موسى و الخضر – عليهما السلام – حكمة الله البالغة في كل حركة و سكنة، و موت و حياة، و عطاء و منع

و لننطلق مع ذي القرنين متمكنين من الأسباب، متعرفين على سنن الله الخلاق، مستخدمين لها في التسخي، نحمل بها الخير للبشرية كلها

و أخيرا فمن لم يحسن الإفادة من كهفه فلن تكون خسارته مفاجأة، ذلك لأنه لم يسمع تحذير ربه: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ● الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ● أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ● ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا)

د. جمال عبد الستار

رئيس الجامعة العالمية للتجديد بتركيا، وأستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف

 

 

2020 للعودة إلى قائمة اقتباسات